ظلت ثلاث ساعات تتفنن في تحضير تلك الأكلة التي بدت شهية ....وضعتها في طبق و زينتها بوريقات البقدونس و ذهبت بها لتضعها في غرفة الطعام..جلست في مواجهة وجبتها شاخصة ببصرها تجاه ذلك الكرسي المقابل لها في آخر الطاولة الممتدة أمامها..أمسكت بقطعة خبز. بدأت تفتتها بين أصابع يديها
كان يجلس هناك … شاحباً … ناظراً إليها بنظراته الجافة التي اعتادت عليها
.
خفضت ببصرها إلى قطعة الخبز بين يديها و عادت بذاكرتها منذ ما يقرب من تسع سنين … كانت لا تزال في الثانية و العشرين.. نضرة .. مبتسمة …رأته و هي تقرأ في ذلك المنتزة بينما كان يحادث والدها
.
مدت يدها لتضع اللقمة في أي من الأطباق لكنها سحبتها مرة أخرى… لمحت طبق سلطة الزبادي عن يمينها…ناصع البياض مرصع بحبات الفلفل الأسود .. تماماً مثل ثوب عرسها
.
تخيلته و كأنه من العالم الآخر .. خجلةٌ كانت بين يديه تراقصه .. الأول في حياتها … حوطها بين ذراعيه وتمتم بكلمات تعدها بالأمان أو هكذا تخيلتها
.
جزت على أضرسها و هي تقاوم دمعة أرادت أن تتسلل من عينها … قبضت عضلات يدها اليمنى و أشاحت الطبق بقوة ليسقط محدثاً دوياً يتبعه صداً في تلك الغرفة المهيبة …
.
عندما عادت من عند أمها في إحدى المرات … وجدتهما هناك.. معاً .. في مخدعها … تسمرت مكانها من هول الصدمة… لم تدر ماذا يمكنها أن تفعل … انسحبت بنفس البطء الذي جاءت به لتفاجئه.. ولكنها هي من تفاجئت .. ركضت من بيته إلى حيث تسكن أمها .. و هي تفكر .. او لم تكن تفكر .. كانت فقط ترى ذلك المشهد يتكرر أمامها بسرعة .. ارتمت بأحضان أمها لتهدئها و تسألها ما الأمر.. فأخبرتها بما رأت .. فكرت قليلاً ثم قالت بأسى : لكن لابد أن تتحمليه يا منى .. فقد تزوجكِ كيلا يزج بوالدك في السجن .. شعرت وكأنها شجرة جافة وحيدة في صحراء شاسعة بلا اهل بعد ان صدمتها كلمات أمها .. فلتتحمليه من أجل أخوك الذي يحتاج والداً يرعاه .. من أجلي .. كما أن لكل رجلِ نزوات .. لكنكِ أنت الباقية .. كانت تثير كلمات أمها التقزز في نفسها ..لم تجد لها من ملجأ بعدما قالتها له والدتها.. ظلت تبكي لعدة أيام في غرفتها و هي ممتنعة عن الطعام ليس عقاباً ولكنها لم تكن تستطيع ..
غابت عن الوعي .. أفاقت لتجد نفسها في بيت زوجها.. لم تصدق ما فعلوه بها .. ظلت تصرخ .. و تصرخ .. اقترب منها احدهم ليحقنها فهدأت … أدمنت المهدئات .. كان هو من يمدها بالمهدئات …
مرت سنة و ربما سنوات و هي تحاول أن تنسى أفعاله
قررت أن تعيش
ذهبت إلى الأطباء للعلاج من إدمانها.. حاولت و فشلت .. حاولت مرة أخرى و فشلت .. كثرت محاولاتها و فشلها حتى تعافت … ملئا بالندابات لكنها عادت..
.
تناولت زجاجة الكاتشب … المزيد من الكاتشب .. ظلت تسكبها على طبقها قرب البطاطس … و ظلت تغمس أصابع البطاطس بها بعشوائية … ارتسمت على وجها علامات القرف و تقضب فمها و أحست وكأنها ستتقيأ… أزاحت الطبق بعيداً .. و نظرت إليه .. كان صامتاً .. لا يزال ينظر إليها نظرته الجوفاء
.
سيل الأهانات لم يكن يتوقف اثناء خروجها و عودتها إلى البيت .. لا بد أن تتحمله .. ولكن لابد أن تعيش .. تكلل كل احتمالاتها بأنها لا يمكنها الطلاق
كان كل شئ في علاقتهما يؤخذ عنوة .. بداية من النظرة حتى الجماع … لم تكن تعلم كيف تتحمله… ولماذا تتحمله .. من أجل آخرون لم يتوانوا أن يفرطوا فيها أو بمعنى أدق .. يبيعونها .. رددت . يمكنني أن أتخلص منها .. ضحكت من هزال تلك الفكرة
كانا يتحادثان على تلك الطاولة في يوم كان فيه صافي الذهن .. حاول أن يمازحها .. لابد لها أن ترسم ضحكتها.. و كانت تفعلها .. ثم انفلتت من بين اصطناعاتها ضحكة حقيقية.. مست قلبها .. نظرت إليه .. كان وسيماً .. تغلب على ملامحه الطابع الأرستقراطي بلمسات من الجاذبية .. شئ ما يجعلك تظل تحدق بعينيه – هذا إن سمح لك بهذا- .. تمنت أن يظل هكذا إلى الأبد
سألتها نفسها بقوة الاستنكار : أتحبينه؟!
ردت بسرعة : لا لا .. فسألتها مرة أخرى : اذا فما هذا الوله؟؟
خفضت بصرها الذي كان متعلقاً به .. فأجابت نفسها بشئ من الأسى : تعشقينه ولا تدرين لماذا ..
قال : منى .. رفعت عينيها إليه لتلاقيه متسائلة : لماذا تفعل هذا بي؟؟
أجاب : قد اشتريتك
شعرت بوخز بداخلها
دققت النظر به قائلة : لكنك لا تعامل مقتنياتك مثلما تعاملني
أتراها قبلت أن تكون شئ اشتراه علها تحظى بأي جزء في قلبه؟.. ربما
أجابها في برود : مقتنيات هذا القصر ثمينة .. اما أنتِ فكنتِ سهلة المنال
أصبح الوخز ألماً يسحقها .. تجمعت الدموع في عينيها و قالت باختناق : و هل أهنتك؟
نظر إليها بطرف عينيه : و هل تستطيعين؟
قامت ببطء من على مقعدها تتحسس خطاها على الأرض
صرخ فيها : انتظري هنا
نظرت إليه بألم فأتبع آمراً : تعالي
اقتربت .. ومع كل خطوة كانت تود لو تخنقه .. أو تخنق نفسها
تماثلت أمامه .. رفع أحد حاجبيه ليرمقها بنظرة ثم اتبع : أطعميني
لم تتحرك… كرر : أطعميني
أرادت أن تتفوه بشئ لكنه اقتحم ذلك قائلاً : إن لم تطعميني .. الآن .. فستعلمين كيف يمكن لعائلتك البائسة التي تعيش في نعيم أن تتشرد .. إذ فجأةً
مدت يدها بارتعاش لتطعمه.. لفظ ما أطعمته في وجهها .. انتفضت .. ركضت باتجاه غرفتها لكنها سقطت و هي تركض .. أخبره الطبيب بأنها حامل …
.
امتدت يدها إلى بندقة مقشورة من طبق المكسرات و ظلت تديرها بين أصابعها..
.
ليلة شتوية ممطرة .. يدوي الرعد في السماء .. كان هو وحده في الصالة أمام المدفأة.. تسحبت لتدس نفسها بين ذراعه و صدره.. حوطها بحركة تلقائية و استمر في القراءة.. ظلت على هذا الوضع مطولاً ثم قالت هامسة : هل يمكنني أن أطلب طلباً .. قال : هذا يعتمد على الطلب .. قالت بدلال : قل موافق دون أن تعرفه .. فكر قليلاً ثم قال : موافق .. سحبت الكتاب من بين يديه لتضعه جانباً .. و قالت : أغمض عينيك .. فأغمضها .. قالت : لا تفكر بأي شئ ..أخذ نفساً عميقاً ثم أخرجه ببطء .. ظلت ناظرة إليه ثم اتبعت : الآن قل لي ما هي أسعد مرة مرت عليك منذ أن تزوجنا .. قضب حاجبيه فقالت آمره: قلت استرخي .. قد وافقت على طلبي.. ابتسم ثم فكر وقال : أتذكرين يوم كنا هناك بالعزبة .. همهمت قائلة : آها .. قال : تحادثنا كثيراً … أحب حديثك … كنت أيضا ترتدين ذلك الثوب الفلاحي .. و شعرك البني قد تدلى بجانب خديك .. اخذ نفساً ثم قال : هذا اليوم كله كان بديعاً … قالت برقة : اليوم؟؟ قال بحنان : بل أنت
سألت و هي تداعب شعيرات ذقنه : صدقاً .. ماذا أمثل لك؟ … فكر كثيرا ثم قال : كل شئ يمكنك أن تتخيليه
همست : حقاً .. أجاب : اجل … لم ترد أن تستفيض بعد جملته هذه .. طبعت على جبينه قبله ففتح عينيه لتلاقي عينيها…
.
سقطت من عينها دمعة … كان ينظر إليها شاخصاً.. دون أن يطلق أي من كلماته السرطانية كسوط يحرق نفسها ألماً
أمسكت بالشوكة لتأكل من الطبق الرئيسي .. غرست شوكتها في قطعت اللحم .. كان يتألم في صورته الشاحبة تلك .. ضغطت بكل قوتها لتتابع تألمه .. ارتعشت
.
كانت في شهرها السادس حينما كانت عائدة من إحدى جولات التبضع لمولودها صعدت و هي تنادي بفرح عليه لتريه ما قد أحضرت … كان هناك مع أخرى … نظرت إلى الأرض و انسحبت متصنعة عدم رؤيتهما ..
صرخ عليها : اقتربي هنا .. فانتفضت تلك المرأة بجانبه ..
لم تتحرك .. قام من موضعه و سحب الأخرى آمراً : قبلي قدميها ..
نظرت إليه بمرارة و مضت باتجاه غرفتها
ركض خلفها و امسك ذراعها بقوة .. فسحبته بشدة لكها لم تفلح .. كاد أن ينخلع .. صرخت :أنت لست بوعيك
قال بحدة : أتصرخين في !! .. صفعها .. بقوة .. شهقت و قد انزلقت على درج هذا القصر العتيق لتسقط جثة هامدة في نهايته..
أفاقت بعد عدة أيام في المشفى و قد أخبرتها الممرضة أنها فقدت طفلها .. صرخت كثيرا .. و غابت عن الوعي لأيام ثم عادت إلى هذا القصر العتيق ولا يشغل تفكيرها سوى شئ واحد
.
أمسكت بالسكين لتقطع قطعة اللحم التي قد غرست الشوكة فيها منذ قليل.. وتابعت تألمه الباهت.. أمسكت بكوب الماء لتشرب منه قليلاً ونظرت بداخله
.
نفس تلك النظرة الجافة رمقها بها و هو يقول : سأسافر
لم تجب
اتبع .. عندما أعود يجب أن تكوني قد تعافيتِ
نظرت إليه ثم عادت إلى طبقها مرة أخرى
لم يؤلمني في ذلك سوى أنني كنت أريد ذلك الطفل حقاً
عادت لتنظر إليه .. تابعته و هو يأكل.. شعر بوعكة في بطنه .. تجزع منها
لم تتغير نظرتها إليه
ألمه يزداد ليغلب على صدره… قام من موضعه و هو يتلوى
ظلت تتابعه
كان يتحرك بخطواته مقترباً منها سائلا : ماذا وضعتِ في الطعام؟؟
أجابت : وضعت تسعة سنين من عمري قضيتها لا أعلم لما يحدث لي ذلك
وضعت طفلاً صغيراً .. وضعت أبي و أمي و أخي الصغير
و قليل من البهارات التي تحبها
شخص ببصره و أراد أن يركض تجاهها لكنه سقط متلوياً في الأرض ناظراً إليها
ولا تزال في عينيها نفس تلك النظرة إليه
امتدت يده تجاهها قابضة على شئ في الهواء ثم سقطت
سقطت دموعها
.
خلعت عنها شالها و اقتربت منه بثوبها الجديد.. انحنت عليه.. قبلته بين عينيه استغرق ذلك وقتاً طويلاً .. ثم أغمضت له عينيه ووضعت يديه بجانبه في سلام
قامت لتضع حقيبته في سيارته الفاخرة و قادتها إلى تلك البحيرة التي لا يقترب منها أحد لكثرة ما أحاطت به نفسها من شائعات… دفعتها بقوة .. لتسقط فيها … وعادت إلى بيته .. ذلك القصر العتيق
.
دخلت إلى مطبخها لتجلب المزيد من السكاكين و ساطور
وقفت أمامه .. جثت على ركبتيها و همست في أذنه : أحبك
تحولت نظرتها الحالمة إلى كره و رفعت ذراعيها عالياً و هي ممسكة بالساطور و تصرخ قائله : هذه لأنك حطمت نظرتي لأمي .. و انقضت بالساطور فاصلة رأسه عن جسده .. تناثرت الدماء على ثوبها
رفعت نفسها وهي تقول : و هذه لتحطيمك إياي . و هوت على ذراعه اليمنى .. و هذه لخيانتي أمام عيني و هوت على ذراعه الأخرى هذه لصفعك إياي
وهذه لأنك أمرتني بتقبيل قدميها
و هذه لأنك جعلتني مدمنة
وهذه وهذه وهذه و هذه ……….
ثم قامت و أمسكت سكيناً مدببه
و هي تصرخ في تيه .. وهذه لأنني كنت أحبك.. بل أعشقك .. بل أردت أن تحبني ولو لمرة ..و هوت بها على صدره تمزقه.. لتخرج قلبه
أمسكته بين يديها و هي تقول : لماذا لم تحبني؟؟
وضعت القلب على الطاولة ووضعت كل قطعة من زوجها في كيس أسود و انطلقت بها إلى محرقة القمامة ووزعتها فوق أكوامها
عادت لتأخذ القلب لتطهيه ..
.
رفعت الشوكة المغروس فيها قطعة القلب إلى فمها لتمضغها و دموعها تسيل لتسقط في كوب الماء
و يتلاشى من أمامها طيفه
.............................
The attached picture is for : The Presidential Palace Dining room, Havana Cuba